بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..
أما بعد : هذه فوائد عزيزة ، يمكن أن تهذب بها الغريزة ، لمن قرأها وتمعن فيها ، بتواضع وتخشع يريد الرفعة والشرف من غير مباهاة ولا سرف ، ولا مخيلة ولا ترف ، فن الرفعة في الدين منة من رب العالمين .
ومن أروع ما قرأت للزمخشريّ وإن كان معتزليا -قوله: ما يخفض المرءَ عدمُه ويتمُه، إذا رفعه دينهوعلمه. ولا يرفعه ماله وأهله ، إذا خفضه فجوره وجهله. العلم هو الأب، بل هو للثأيأرأب. والتقوى هي الأم، بل هي إلى اللبان أضم. فأحرز نفسك في حرزهما، واشدد يديكبغرزهما. يسقك الله نعمة صيّبة، ويحيك حياة طيبة.
شرح الكلمات الغريبة :
قوله : عدمه ، أي فقره ومسكنته قال تعالى :{{ أو مسكينا ذا متربة }}
والثَّأْيُ ، كالسَّعْيِ ، وكالثَّرَي : الإفْسادُ كلُّه .
و قيلَ : الجِراحُ والقَتْلُ ونَحْوُهُ مِن الإفْسادِ ؛ ومنه حدِيثُ عائِشَةَ تَصِفُ أَباها ، رضِيَ اللَّهُ عنهما : ورَأَبَ الثَّأَي ، أَي أَصْلَحَ الفَسادَ .
وفي الصِّحَاحِ : الثَّأَي الخَرْمُ والفَتْق . قال جرير:
هو الوافِدُ الميمونُ والراتِقُ الثأَي ... إذا النَعلُ يوماً بالعشيرة زَلّتِ
تاج العروس( 37/260 )
واللبان : الصدر ، أو مجرى اللبب منه . واللبان لبن المرأة ، وذوات اللبن من الغنم ، وجمع لبن .
وقوله : فأحرز نفسك في حرزهما أي احفظ نفسك وصنها بالعلم والتقوى فتزود بالعلم وشرب من لبن التقوى وكن رحب الصدر فيما يعتريك في سبيل ذلك إن كنت تريد أن يسقيك الله نعمة صيّبة ، والصُيَََّابة الخيار من كل شيء ، أو هو خالصه ؛ أي:ينعم عليك بنعم خالصة خيرة لتحيى بها حياة طيبة .
وذلك أن العلم مصلح للفساد وراتق للفتق والخرم التي يحصل للطالب في سيره أو وما يحصل له من خرم بينه بين الجماعة ..
ومعنى ذلك أن الضعة والتسفل والهبوط والذلة والحقارة والدون في الدنيا ليست باليتم والمسكنة والفقر ، كما أن الرفعة والعلو بالجاه والشرف ليست بكثرة المال والأهل والنسب ما سلف وما خلف ، وليست بالعشيرة والسلطان والترف ما دام صاحبها مقيم على الفجور والفسوق ، والبعد عن دين الله بالعقوق ، وإنما حقيقة ذلك بالعلم الصحيح النافع الذي يصلح الفساد الواقع ، وبالتقوى التي بها يُكرم عند الملك الأعظم ، فكم من وضيع حقير في الناس رفعه علمه وتقواه ، {{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }} وكم من كبير غني وضعه فجوره وفسوقه {{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ }}.
فاحفظ عليك نفسك وصنها بالعلم والتقوى والزم غرزهما يمن الله عليك بنعم غزيرة خالصة تحيى بها حياة طيبة رفيعة في الدنيا والآخرة .
يؤيد هذا ما أخرجه الإمام أحمد قال: حدثنا أبو كامل، حدثنا إبراهيم، حدثنا ابن شهاب، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى. قال: وما ابن أبزى؟ فقال: رجل من موالينا. فقال عمر [بن الخطاب] استخلفت عليهم مولى؟. فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاض. فقال عمر، رضي الله عنه : أما إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم -قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب قومًا ويضع به آخرين" .
أخرجه مسلم (2/201 ) والدارمي (2 / 443 ) وابن ماجة (رقم 206 )
أنظر له السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني (5 /281/ ح2239).
وذكر الخطيب البغدادي في كتابه الطيب" الفقيه والمتفقه "(ص18) اختصره وعلق عليه أبو عبد الرحمن العزازي :
عن أبي العالية قال كنت آتي ابن عباس وهو على سريره فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير ، فتغامزني قريش ، ففطن لهم ابن عباس فقال : كذاك هذا العلم يزيد الشريف شرفا ويجلس المملوك على الأسرة (مع الملوك ).قال المعلق : وإسناده لا بأس به .
وفيه قال أبو إسحاق : كان محمد بن عبد الرحمن الأوقص عنقه داخل في بدنه ، وكان منكباه خارجين كأنهما زجّان ، فقالت له أمه : يا بني لا تكن في قوم إلا كنت المضحوك منه المسخور به ، فعليك بطلب العلم فإنه يرفعك ، قال فطلب العلم ، فولي قضاء مكة عشرين سنة ،قال : فكان الخصم إذا جلس بين يديه يُرعَدُ حتى يقوم ، ومرت به امرأة يوما وهو يقوم : اللهم اعتق رقبتي من النار . قال : فقالت له : يا ابن أخي وأي رقبة لك ؟
وفيه عن محمد بن القاسم بن خلاد قال : يقال : " لا خسيسة في الإسلام ، الفضل في الدين والتقوى ، وإذا اجتمع إلى ذلك الشرف فذلك التّام الكامل.
وقال تعالى: {{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ }}خَبِيرٌ (11) .
قلت :فأعلى المراتب من الإمامة ومنزلة الأئمة في الأمة لا تنال إلا بالصبر واليقين وذلك لا ينال إلا بالعلم والدين والتقوى لرب العالمين ، وكمال الانقياد ، والتقريب والسداد ، ومن لم ينقد لهذا الدين على ما كان عليه سيد المرسلين وصحابته الغر الميامين أذله الله ، ويوم القيامة أخزاه ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : << ...وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ >>. أَخْرَجَهُ البُخَارِي : 4/49 - تعليقا وأوصله الحافظ في تغليق التعليق - وأحمد 2/50/ (5114) و2/92(5667) وأبو داود(4031) وعبد الرزاق في مصنفه (ج 4/ 212) وعبد بن حميد في مسنده (ج 1/267) حديث رقم:( 848 )وابن المبارك في الجهاد( ج 1/91) حديث رقم: (105) ..قال الإمام الألباني رحمه الله : وهذا إسناد حسن ، وفي ابن ثابت كلام لا يضر . جلباب المرأة المسلمة (ص203)والإرواء( 1269) ، وحكم عليه بالصحة في صحيح الجامع حديث رقم : (2831).
ومن أسباب الرفعة أيضا والعزة التواضع وهضم النفس وازدراؤها ، وترك البغي والظلم واحتقار الآخرين ، فربما سبقوه إلى الجنة بمفاوز ..
قال ابن القيم -رحمه الله - : من تواضع لله رفعه ، فكذلك من تكبر على الانقياد للحق أذله الله ووضعه، وصغره وحقره " مدارج السالكين (2/333) .
وقوله : << من تواضع لله رفعه الله >> هذا جزء من حديث أخرجه البخاري 40باب - جمع اللونين أو الطعامين بمرة ؟ (ح 66): قال النبي صلى الله عليه وسلم << فإنه من تواضع لله رفعه الله ، ومن تكبر قصمه الله ، ومن بذر أفقره الله ، ومن اقتصد أغناه الله ، ومن ذكر الله أحبه الله >> شرح البخاري لابن بطال (9/501)وأخرجه مسلم (4/2001) وأحمد( 2/386)والترمذي (4/330) .
وعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-:
<< إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا ، وَلاَ يَبْغِي بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ>>.أخرجه البُخَارِي، في الأدب المفرد (426) وأبو داود (4895) وابن ماجة (4214) وقال الشيخ الألباني صحيح .
وعَنْ عِيَاصِ بْنِ حِمَارٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لاَ يَبْغِيَ أحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً سَبَّنِي فِي مَلأٍ هُمْ أَنْقَصُ مِنِّي، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ ، هَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ جُنَاحٌ ؟ قَالَ : الْمُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ ، يَتَهَاتَرَانِ وَيَتَكَاذَبَانِ>> الأدب المفرد(428) والصحيحة (رقم570)وقال الشيخ الألباني صحيح. وأخرجه أحمد وقال محققه :إسناده صحيح على شرط مسلم .
قلت :رواه مسلم (ح2865) دون قوله فقلت : يا رسول الله.. إلى آخره .
والنبي يبشر هذه الأمة بالشرف والمجد والرفعة والقدر عند الله بقوله –صلى الله عليه وسلم - :<< بشر هذه الأمة بالسناء والتمكين في البلاد والنصر والرفعة في الدين ومن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة نصيب >> صحيح الترغيب والترهيب رقم( 1332) ( صحيح ) وانظر حديث رقم : (2825) في صحيح الجامع .
وقال ابن السكيت : السناءُ من الشَّرَف والمجد مَمْدود . تهذيب اللغة (13/54) للأزهري . وقال الفيروزبادي: السَّناءُ (بالمدِّ : الرّفْعَةُ )؛ ومنه الحديثُ :( بَشِّرْ أُمَّتي بالسَّناءِ) أَي بارْتِفاعِ المَنْزلَةِ والقدْرِ عنْدَ اللَّهِ. تاج العروس (38/314) .
قال فخر الدين الرازي – رحمه الله - في مفاتيح الغيب (17/337)وقوله تعالى مخبرا عن قوم نوح لأنهم قالوا له :{{ وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْي }}ِ والمراد منه قلة مالهم ؛ وقلة جاههم ؛ ودناءة حرفهم وصناعتهم هذا أيضا جهل ، لأن الرفعة في الدين لا تكون بالحسب والمال والمناصب العالية، بل الفقر أهون على الدين من الغنى ، بل نقول : الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف تجعل قلة المال في الدنيا طعنا في النبوة والرسالة .
قلت : وطعنا في الربانيين من هذه الأمة – وقد أثبت الواقع على مر العصور أن الكثير من العلماء الأجلاء الأفاضل كانوا من علية القوم مع فقرهم وقلة مواردهم إلا ما يحملون من العلم والخشية لله تعالى التي رفعهم الله بها.
وقال – رحمه الله - : و قوله تعالى مخبرا عنهم: {{ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ }}وهذا أيضا جهل ، لأن الفضيلة المعتبرة عند اللَّه ليست إلا بالعلم والعمل ، فكيف اطلعوا على بواطن الخلق حتى عرفوا نفي هذه الفضيلة ، ثم قالوا بعد ذكر هذه الشبهات لنوح عليه السلام ومن اتبعه {{ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ }}.
قلت وهكذا يفعل أهل البغي والحسد والتكبر ، وأهل الفخر ، والبطر والشر ، وأهل المناصب والجاه يتهمون اتباع الرسل الصادقين بكل نقيصة ، ويرمونهم بما ليس فيهم حتى يصرفوا الناس عنهم ،خوفا أن يسرقوا منهم الأدوار- كما يقولون - أو يعتلون الريادة التي هم عليها فينقطع صداهم ، وتنزل منزلتهم وتزل أقدامهم ، كما قال فرعون لقومه تحذيرا من موسى :{{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ }}(26)غافر .
أي منطق هذا ؟!المجرم يحذر من المسلم ، والمبتدع يحذر من المتبع ، والخلفي يطعن على السلفي ، إنها يوم تنقلب الحقائق ، وتعظم المسائل الدقائق ، وتكبر حتى تصبح من البوائق وتختل الموازين ، ويتلاعب بالدين ، فيرفع الوضيع الجاهل ، ويوضع العالم الفاعل ، ويظهر الدعي الفاشل ،ينتصر بالتعصب للباطل ، فتكون فضيلة الصدق رذيلة ، ورذيلة الكذب فضيلة ، حين تحل السنون الخداعات وينقسم أهل الحق إلى فرق وجماعات ، وتظهر الفتن
والابتلاءات حينها لا ينفع إلا الصبر من القبض على الجمر ، والتواصي بالحق المر ، وسؤال الله التوفيق للحمد والشكر .
أسأل الله الثبات حتى الممات وأن يوفقني الله وإخواني السلفيين للتواضع وكسر شهوة النفس والتقليل من حظوظها للحق ، ولنتعاون على أن تكون الرفعة والسناء لهذا الدين كما كانت لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم ...

 
وكتب :
محب العلم والإنصاف على طريقة صالح الأسلاف
أبو بكر يوسف لعويسي